في قلب الصحراء، حيث تتراقص حبات الرمل على إيقاع الريح، وحيث يمتد الزمن على سجادة من الحصى والصخور، وُلدت حكاية “المنسف”. ليست مجرد وجبة، بل هي قصة شعب، وفلسفة حياة، ورمزٌ متجذر في الوجدان الأردني. عقود طويلة من تغطية الأخبار ورصد التحولات لم تزدني إلا يقيناً بأن هذا الطبق الذهبي، الذي يتربع اليوم على عرش المائدة الأردنية، يحمل في طياته أسرار آلاف السنين، تتجاوز مذاقه الشهي لتروي فصولاً من الصمود والكرم والاعتزاز بالهوية.
قبل أن يصبح الأرز الأبيض الرفيق الأثير للحم الضأن المطهو في الجميد، كانت جذور المنسف أعمق وأكثر خشونة، تتناسب مع قسوة الحياة البدوية. لم تكن هناك رفاهية الأرز المستورد في تلك العصور الغابرة. كان “الثريد” هو الأصل، خبز الشراك الرقيق يُسقى بمرق اللحم واللبن المخيض، أو “المريس” كما كان يُعرف آنذاك. قمح “الجريش” كان الحاضر الأبرز، مطحونًا خشنًا ليمتزج بنكهة اللحم واللبن التي تروي حكايات الجود والكرم. الجميد، ذلك الكنز الأبيض المصنوع من حليب الأغنام بعد تخميره وتجفيفه، لم يكن مجرد مكون، بل كان عبقرية حفظ الطعام في بيئة صحراوية لا تعرف التبريد. كان هو الروح الحقيقية للطبق، يمنحه تلك النكهة الحمضية المالحة المميزة، التي لا تُشبه أي مذاق آخر. ولننسَ للحظة سكين الشوكة، فطقوس تناول المنسف باليد اليمنى، تشكيل كرات الأرز المغموسة بالجميد واللحم، هي احتفال بالانتماء والتواصل، وليست مجرد طريقة لتناول الطعام.
تذهب الروايات، ومنها ما أدرجته “اليونسكو” ضمن التراث الثقافي غير المادي، إلى أن قصة المنسف تعود إلى ما يزيد عن 3200 عام، وتحديداً إلى زمن مملكة مؤاب القديمة في جنوب الأردن. يُقال إن الملك ميشع، في القرن التاسع قبل الميلاد، أراد أن يختبر ولاء شعبه في معركتهم ضد العبرانيين. أمرهم أن يطبخوا اللحم باللبن، في إشارة صريحة إلى “نسف” ما جاء في التوراة من تحريم طبخ الجدي بلبن أمه. كانت تلك الوجبة اختباراً سياسياً، وتحولت مع الزمن إلى رمز للهوية والكرامة. من الكرك، قلب مؤاب النابض، انتشر المنسف ليعانق كل بقعة في الأردن. لم يبقَ حبيس الجبال الشاهقة أو الوديان العميقة، بل تسرب إلى السهول والبادية، حاملاً معه رائحة الأصالة والكرم.
اليوم، المنسف ليس مجرد وجبة تُقدم في المناسبات؛ إنه طقس اجتماعي، مائدة الكرم في الأعراس، رمز التضامن في الأتراح، وبوابة الأردني إلى جذوره في الأعياد ولقاءات العائلة. الصدر الكبير الذي يُقدم عليه، وقطع اللحم التي تعلوه، والمكسرات التي تزينه، كلها ليست مجرد زينة، بل هي دعوة للمشاركة والتقارب، رسالة صامتة بأن هنا بيتٌ مفتوحٌ للجميع، وقلبٌ لا يعرف البقر. في كل حبة أرز صفراء بلون الكركم، وفي كل قطرة جميد غنية، وفي كل خيط من لحم الضأن البلدي، يكمن تاريخ طويل من الصمود، والكرم، والاعتزاز بالهوية. المنسف لم يتغير جوهرياً، بل تطور ليحتضن مكونات جديدة مثل الأرز، محافظاً على روحه الأصيلة، ومتجدداً كالنهر الذي يتدفق في أودية الأردن.
عندما تجلس أمام صدر منسف أردني، تذكر أنك لا تأكل طبقاً فحسب، بل تتذوق قطعة من التاريخ، ولغة صامتة من الكرم، وتجربة ثقافية لا تُنسى. إنه احتفال بالحياة، يخبرك أن للأردن حكاية أعمق من مجرد الجغرافيا، حكاية تبدأ من قلب الصحراء وتصل إلى أطباقنا، تحمل معها عبق الأجداد ودفء الضيافة.