بالرغم من فرض العقوبات الغربية على موسكو، يظهر اقتصاد روسيا استدامة ونموًا قويًا، مما يعزز معدلات الأجور ويدفع بالاستهلاك والاهتمام بقطاع العقارات. تساءل الصحفي بنيامين بيدر في تقريره الشامل بمجلة دير شبيغل عما إذا كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد نجح حقًا في جعل اقتصاد بلاده متينًا.
يشير بيدر إلى أن الاقتصاد الروسي تعرض لانتقادات شديدة من الغرب، بدءًا من تصريحات سيرغي برين، مؤسس غوغل، الذي استهان بروسيا وصفها بأنها “نيجيريا مع الثلوج”، وصولاً إلى تصريحات المؤرخ يوفال هراري الذي وصف روسيا بأنها “محطة وقود تحمل أسلحة نووية”. ورغم فرض العقوبات بسبب الهجوم على أوكرانيا، أظهر الاقتصاد الروسي متانته بشكل ملحوظ.
وفقًا لتقديرات أولية، سجل الناتج المحلي الإجمالي نموًا بنسبة 3.6% في عام 2023، وهو أعلى بكثير من معدلات النمو في دول الاتحاد الأوروبي. بالرغم من التحفظ السابق تجاه البيانات الاقتصادية الروسية، ويشير بيدر إلى أن الشكوك تقللت، حيث يعتبر انهيار الاقتصاد الروسي الذي تنبأ به الغرب لم يحدث.
كما يؤكد خبراء مستقلون على مصداقية الإحصائيات الروسية الرسمية، ويشيرون إلى شركة “كوانت كيوب” التي تعتمد على تحليل الصور الفضائية كمرجع لقياس النشاط الاقتصادي، والتي لا تجد أدلة على التلاعب أو وجود صعوبات اقتصادية في روسيا.
يوضح بيدونا بيلوني من “كوانت كيوب” أن بياناتهم تظهر عدم وجود تلاعب، وتؤكد على عدم وجود مشكلات اقتصادية في روسيا. يتفق خبراء آخرون، مثل فيسيلي أستروف من معهد فيينا للدراسات الاقتصادية الدولية، على أن النمو الاقتصادي الروسي هو حقيقي.
وتشير مراقبة “دبليو آي آي دبليو” للتنمية الاقتصادية الروسية إلى أنه لا يوجد دليل على تلاعب البيانات، ويوضحون أن البطالة الفعلية قد تكون أعلى قليلاً من النسبة الرسمية. بشكل عام، يظهر الاقتصاد الروسي قوة واستدامة رغم التحديات الدولية.
لكن إذا لم تكن الطفرة الاقتصادية دعاية روسية فما الذي أدى إلى حدوثها على وجه التحديد؟ فهل أثبت الاقتصاد الروسي بالفعل أنه منيع إلى حد ما كما يقول الرئيس بوتين؟ أم أن هذا النمو يرجع في المقام الأول إلى التوسع الهائل في إنتاج الأسلحة الذي يضخ فيه الكرملين المليارات؟
لقد حاول معهد أبحاث البنك المركزي الفنلندي “بوفيت” العثور على إجابة، وللقيام بذلك قام الخبير الاقتصادي هيلي سيمولا بدراسة النمو بشكل منفصل حسب قطاع الصناعة، وخلص إلى أنه “لا توجد تنمية اقتصادية واحدة في روسيا، بل في الواقع هناك اثنتان”، وفق تقرير الكاتب بنيامين بيدر.
وهناك قطاعات التنمية التي تشمل معالجة المعادن وإنتاج الإلكترونيات والأجهزة البصرية والحواسيب والبطاريات وصناعة المركبات بشكل عام.
وتتمتع جميع هذه القطاعات بمعدلات نمو عالية، ويعود السبب في ذلك -بحسب سيمولا- إلى أن هذه الصناعات تنتج أيضا جزئيا على الأقل لصالح الجيش الروسي.
ومع ذلك، فإن النمو في القطاعات التي لا ترتبط بآلة الحرب الروسية أضعف بكثير، ولم يعد قطاعا التجارة والخدمات بعد إلى مستويات ما قبل الحرب الروسية الأوكرانية، كما لا توجد بوادر على حدوث طفرة في قطاع التعدين واستخراج المواد الخام مثل النفط والغاز إلا قطاع المقاولات الذي كان استثناء، لاستفادته بشكل كبير من الطلبات الصادرة عن وزارة الدفاع لإنشاء مصانع وتحصينات جديدة.
وبشكل عام، نمت الصناعات الحيوية للمجهود الحربي بنسبة 35% منذ بداية الحرب، ومن ناحية أخرى تعاني العديد من مجالات الاقتصاد المدني، فقد انخفض إنتاج الأجهزة المنزلية بشكل ملحوظ، كما أن صناعة السيارات لم تتعاف من العقوبات في ظل انسحاب العديد من الشركات المصنعة.
كما ارتفع عدد السيارات المسجلة حديثا في روسيا مرة أخرى إلى أكثر من مليون، لكن معظم السيارات الآن في البلاد مستوردة من الصين، وبأكثر من 1.5 مليون سيارة كانت روسيا متقدمة على فرنسا في المركز الـ11 بين أهم الدول المصنعة للسيارات حتى اندلاع الحرب.
وهذا أوضح مؤشر على التحول من الاقتصاد المدني إلى اقتصاد الحرب، ويبدو أن نحو 21% من إجمالي إنفاق الحكومة المركزية الروسية يتدفق إلى قطاع الدفاع، لكن لا يمكن الجزم بذلك كليا، لأن روسيا لم تعد تنشر هذه المعلومات كاملة.
ووفقا لسيمولا، يمكن أن يُعزى نحو 60% من النمو الصناعي القوي في الأشهر التسعة الأولى من عام 2023 إلى الإنفاق الدفاعي، و40% من نمو الاقتصاد بأكمله.
لكن ليس الإنفاق الدفاعي وحده هو الذي يدفع النمو الاقتصادي في روسيا، إذ ارتفعت الأجور بشكل حاد في جميع أنحاء البلاد، وبلغت الزيادة 7.6% في عام 2023، وربما تؤثر المدفوعات الحكومية الخاصة على نصف مليون جندي، ينقل تقرير الكاتب بنيامين بيدر.
ووفقا للخبير في شؤون أوروبا الشرقية فاسيلي أستروف “يبلغ عدد السكان العاملين في روسيا 74 مليون شخص”.
وحقيقة أن الملايين من الروس تمكنوا من التمتع بزيادات كبيرة في رواتبهم في العامين الماضيين لا تزال لها علاقة بالحرب ولو بشكل غير مباشر، فقد أدت التعبئة العسكرية إلى تنامي نقص المهارات في البلاد، وبالإضافة إلى ذلك هناك مليون عامل مؤهلون تأهيلا جيدا يفرون إلى الخارج.
لقد وجه الكرملين بزيادة الإنتاج في مصانع الأسلحة بشكل كبير في السنة الثانية من الحرب، ويحتاج مصنعو الأسلحة إلى المزيد من الموظفين للقيام بذلك.
ولذلك، يجب على أصحاب العمل -حتى في القطاعات غير المرتبطة بالحرب- زيادة الأجور تفاديا لهجرة القوى العاملة، ففي يناير/كانون الثاني 2024 أبلغت 47% من الشركات الصناعية في روسيا عن نقص حاد في القوى العاملة، وهي أعلى نسبة منذ بدء تسجيل الشركات عام 1996.
يقول الخبير أستروف “إذا أصبح العمل أكثر تكلفة فإن الاستثمارات في الآلات والتقنيات تكون جديرة بالاهتمام، وهذا يمكن أن يعطي الاقتصاد الروسي دفعة نمو محدودة، وبالنسبة لبلد لا يزال متوسط دخل الفرد فيه يعادل 300 يورو أو أقل فإن هذا يعد في الواقع تطورا إيجابيا، ومع ذلك كان الدافع وراء الهجوم على أوكرانيا غير منطقي إلى حد ما”، كما يقول أستروف.
كما تعاني روسيا من أزمة ديمغرافية منذ سنوات عديدة، وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي انخفضت معدلات المواليد بشكل أكثر حدة مما كانت عليه في أوروبا الغربية، وحتى من دون اللاجئين ووفيات الحرب فإن عدد سكان روسيا سوف يتقلص بمئات الآلاف من الناس كل عام.
ووفقا لتقديرات الكرملين، ستشهد البلاد نقصا بما لا يقل عن مليوني عامل بحلول عام 2030، وبحلول عام 2045 من المتوقع أن يقل عدد سكان العاصمة موسكو بنحو 700 ألف نسمة عما هو عليه اليوم.
ويحذر الخبير الاقتصادي أستروف من المبالغة في تقدير عواقب نقص العمالة، ففي الماضي -على سبيل المثال- كان على العديد من دول أوروبا الوسطى -مثل جمهورية التشيك والمجر- تعاني من مشاكل ديمغرافية هائلة “لكنها ظلت قادرة على تحقيق معدلات نمو مرتفعة لفترة طويلة”، والوضع حاليا مماثل في روسيا حيث تعمل الأجور المرتفعة على دفع الاستهلاك الخاص، ونتيجة لذلك يشهد قطاع مثل الصناعة نموا مطردا.
ولم يلاحظ أغلب الروس بعد أن الاقتصاد المدني يتقلص، وهو ما يرجع جزئيا إلى أن تطورات أخرى طغت على هذا الاتجاه، كازدياد أنشطة المشاريع الصغيرة والمتوسطة بسبب الارتفاع الحاد في الدخل، مما دفع المستهلك إلى الإنفاق محليا والاستغناء عن السياحة الخارجية وشراء العقارات في دول أخرى، إضافة إلى النمو السريع في منح القروض، وهو ما اضطر البنك المركزي إلى إبطائه في العام الماضي.
ومن وجهة نظر غربية، فإن لطفرة الائتمان سببا مثيرا للقلق، ويقول الاقتصادي أستروف إن “العديد من الشركات والأفراد يتطلعون إلى المستقبل بتفاؤل محدود”.
وينبغي الآن النظر إلى بيانات المسح في روسيا بحذر، لكن استطلاعات معاهد المسح الكبرى لا تظهر أي موجة من التشاؤم أيضا.
ووفقا لمركز ليفادا المستقل، فإن 71% من الروس يقولون إن بلادهم تتطور في الاتجاه الصحيح، وهذه هي أعلى نسبة تم قياسها على الإطلاق.
ووفقا لمعهد استطلاعات الرأي الحكومي، فإن نسبة الروس المتفائلين بشأن المستقبل كانت عند مستوى مرتفع باستمرار منذ عام 2022.
وتتجلى العواقب، ليس فقط في المدينتين الكبيرتين مثل موسكو وسان بطرسبورغ، ولكن أيضا في الأطراف، ففي مدينة تشيليابينسك شرق جبال الأورال ارتفعت أسعار الشقق بنسبة 37% منذ فبراير/شباط 2023، وفي نيجني نوفغورود بنسبة 31%، ومن بين 16 مدينة روسية يقطنها ملايين السكان تحتل العاصمة موسكو المركز الثاني قبل الأخير بزيادة قدرها 13%.
وقد أثرت الطفرة العقارية على عدد ملحوظ من المدن الصناعية، حيث تستفيد الشركات أيضا من إنتاج الأسلحة.
ومع ذلك، لا يفترض الخبراء أن طفرة الأسلحة ستجلب معدلات نمو عالية على المدى الطويل للاقتصاد، ومن شأن المزيد من التوسعات الكبيرة في إنتاج الأسلحة أن تزيد إضعاف الاقتصاد المدني. ومن ناحية أخرى، يحرص الرئيس فلاديمير بوتين على الحفاظ على الأمل المعلق لدى المواطنين بأن الحرب لن تسفر عن أي خسائر شخصية لهم.
وقد قدم البنك المركزي الروسي بالفعل توقعات أكثر تشاؤما للعام الحالي، إذ لن ينمو الاقتصاد الروسي إلا بنسبة تتراوح بين 1 و2%، وأصبحت العلامات الأولى لضعف النمو واضحة بالفعل، ووفقا لمحللين في بنك “في إي بي” المملوك للدولة، وصل معدل النمو في الأشهر الثلاثة الأخيرة من عام 2023 إلى 0.1% فقط.
ومع ذلك، فإن روسيا لا تزال بعيدة كل البعد عن الانهيار الذي توقعه الغرب، وفق دير شبيغل.