سدّ الفراغ بالمفرغ

بقلم : ابراهيم ناصر

في ظل تعقيدات الحياة المعاصرة وتزايد التحديات التي يواجهها المجتمع الأردني، نجد أن نهج إدارة العديد من القطاعات، يعكس حالة من “سد الفراغ بالمفرغ”. بمعنى أن المسؤولين والقائمين على إدارة هذه القطاعات يتوجهون بشكل متزايد إلى ملء المناصب أو المساحات الفارغة بأشخاص ليس لديهم ما يميزهم سوى قدرتهم على ملء الفراغ، دون النظر إلى الكفاءة أو الموهبة.

الدراما الأردنية كمثال على الإزاحة الرمزية
هذه الظاهرة طالت الدراما الأردنية، التي لم تعد تعتمد على الموهبة أو التأهيل الفني بقدر ما باتت تعطي الأولوية لـ”المؤثرين” على منصات التواصل الاجتماعي. دخول هؤلاء إلى الأعمال الفنية، والذين لا يمتلكون بالضرورة الخبرة أو المهارات اللازمة في التمثيل، ولكنهم يملكون قاعدة جماهيرية على منصات التواصل الاجتماعي. ما ساهم في تهميش الفن الحقيقي، وضرب جديّة هذا القطاع، وهذا يطرح تساؤلاً مهماً: هل أصبح معيار النجاح في الدراما الأردنية هو “عدد المتابعين” على صفحات الفيسبوك وإنستغرام بدلاً من الموهبة والقدرة على أداء الأدوار الدرامية؟
لنأخذ الدراما السورية كمثال للنجاح الذي يمكن تحقيقه عندما يتم التركيز على الإبداع والاحترافية. في سوريا، يعتبر المعهد العالي للفنون المسرحية هو الحاضن الأول للمواهب الفنية الشابة، حيث يخرج سنويًا جيلًا جديدًا من الممثلين والمخرجين الذين يمتلكون تدريبًا أكاديميًا معمقًا. ويعمل المنتجون والمخرجون السوريون على تطوير النصوص والقصص بحيث تتماشى مع متطلبات السوق والجمهور، مع الحفاظ على جودة العمل الفني.

من الدراما إلى السردية الوطنية: انتقال الأزمة
المقلق هو انتقال هذه العقلية إلى مجال أشدّ حساسية: نقل السردية الوطنية. فقد أصبح بعض من يسمّون “مقدمي المحتوى” هم الوجوه التي جاري التفكير في الاعتماد عليها لتروّيج لرواية الدولة الأردنية في المحافل الإقليمية والدولية. فبدلاً من الاعتماد على نخب فكرية، أو إعلاميين محنكين، أو مثقفين يحملون همّ الهوية الوطنية، نجد أن الدولة تتجه إلى تصدير وجوه ترفيهية سطحية، باعتبارها قادرة على “الوصول إلى الجمهور” بسبب حجم متابعيها، دون النظر إلى عمق ما يُقال أو كيف يُقال أو لمن يُقال.
هذا التحول يمثل اختزالًا خطيرًا لمفهوم السردية. فالرواية الوطنية ليست منتجًا تسويقيًا، ولا يمكن أن تُختصر في مشاهد كوميدية أو محتوى يومي خفيف. إنها منظومة من الرسائل التاريخية، والسياسية، والاجتماعية، تتطلب من يملك الوعي بها والقدرة على ترجمتها بلغة تُحترم محليًا وتُفهم دوليًا. فحين يصبح “مؤثر في مطاعم البرغر” هو صوت الأردن في مؤتمر أو حملة خارجية، فإننا لا نكون أمام سردية مدروسة، بل أمام حالة تسويقية فارغة.

المكاسب السريعة مقابل الطموحات الأكاديمية
هذا التوجه لا يقف عند حدود الفن أو السردية، بل يشمل قطاعات أخرى، مثل التعليم ، حيث يشعر كثير من الأكاديميين والمختصين بتآكل العدالة. فبينما يتطلب بناء السمعة الأكاديمية والبحثية سنوات طويلة من الجهد، يُمنح التأثير الاجتماعي والمكانة المجتمعية ل”صناع المحتوى”، لا لمن يحقق شروط التميز الحقيقي.
كيف يمكن بناء جيل ينتمي لمقاعد الدراسة والمكتبات والتخصصية في ظل الفجوة الكبيرة بين المستوى الاجتماعي المتحقق من التفوق الاكاديمي والمهني والذي غالباً ما يحتاج عشر سنوات وأكثر وبين المستوى الاجتماعي المتحقق في الجانب الاخر.

خلاصة
الحقيقة المرة هي أن التكيف مع هذا الواقع يعد خيارًا انهزاميًا. قد يبرر البعض هذه الظاهرة بوجود تحول في الذوق العام أو حتى تزايد أهمية الإعلام الجديد، لكن في النهاية، التكيف مع الوضع الحالي يعني القبول بالتدهور في مستويات عديدة منها الثقافة والاعلام والفن.
النهج السائد اليوم في الادارة الأردنية، المتمثل في “سد الفراغ بالمفرغ”، يعكس تجاهلًا واضحًا للمؤهلات الفنية والتخصصية التي يجب أن تكون الركيزة الأساسية في اختيار الأسماء. كما أن تسليط الضوء على مشاهير المنصات التواصل الاجتماعي، يعكس أزمة حقيقية في فهمنا لماهية الثقافة والفن والأعلام. إن ما تحتاجه الدولة اليوم ليس تغيير الأدوات بقدر ما تحتاج إلى إعادة تعريف من يملك شرعية الحديث باسمها، داخليًا وخارجيًا.
العودة إلى الاحترافية والاهتمام بالتعليم الأكاديمي والعمل الجاد سيكون السبيل الوحيد لاستعادة مكانة الأردن الثقافية والفنية والأعلامية، وليس الانجراف وراء الظواهر العابرة التي لا تملك قاعدة متينة.

Related posts

تهم “دعم الإرهاب” لتهجير الفلسطينيين

السياحة اللبنانية تعود للواجهة بعد انقطاع طويل

الأردن؛ وطن لا وظيفة