حرب الرقائق: معركة الهيمنة بين واشنطن وبكين على “النفط الجديد”

تُعدّ أشباه الموصلات العقل المحرّك للذكاء الاصطناعي، وجوهر التكنولوجيا الحديثة، تحيط بنا تمامًا كما يحيطنا الهواء. وفقًا للخبراء، باتت هذه الرقائق الإلكترونية حيوية للحياة العصرية لدرجة يصعب الاستغناء عنها.

يصفها جين-سون هوانغ، الرئيس التنفيذي لشركة NVIDIA، بأنها “النفط الجديد”، إذ تمدّ كل شيء بالطاقة، سواء على سطح الأرض أو في الفضاء.
من السيارات والسفن وحتى المركبات الفضائية، أصبحت أشباه الموصلات العمود الفقري لصناعات لا يمكن تصور العالم بدونها.

 

فهي لم تعد مقتصرة على الهواتف وأجهزة الكمبيوتر، بل امتدت إلى أبسط تفاصيل حياتنا اليومية، مثل الثلاجات التي تحفظ غذاء أطفالنا من التلف.

 

وتدخل في صناعات لم نعد نتصور العيش من دونها. وليس الهاتف المحمول، أو الحاسوب أو تطبيق واتساب فحسب؛ لكن أيضا الثلاجة التي تحفظ حليب أطفالك من التلف.

وتؤثر أشباه الموصلات كذلك ـ بصيغ مختلفة ـ على سير عمليات حاسمة في بقاء ملايين الأشخاص على قيد الحياة.

 

تخيل عطلا في سلاسل التوريد ـ كالذي حصل أيام كورونا قبل بضع سنوات ـ لكن على نطاق أوسع بكثير. ونقصد بـ”سلاسل التوريد”، شبكات من الأشخاص والمنظمات والموارد والأنشطة والتكنولوجيا الداخلة في صناعة البضائع ـ أو زراعتها ـ، ونقلها، وتخزينها، وبيعها إلى المستهلك.

خذ الحنطة، مثلا، أو اللقاحات عند تفشي الأوبئة.

فالرقائق بالنسبة للذكاء الاصطناعي، بمقام الدماغ لفكر الإنسان؛ ويبقى الذكاء في الحالتين، سلسلة عمليات ذهنية لحل المشكلات.

 

حرب الرقائق

عند إطلاق نموذجها للذكاء الاصطناعي قبل نحو أسبوعين، زعمت شركة DeepSeek الصينية أن كلفة النموذج كانت رخيصة مقارنة بكلف نماذج أميركية مماثلة، مثل OpenAI.

وقالت الشركة إنها استخدمت، في تدريب نموذجها، رقائق أشباه موصلات أقل تعقيدا ـ أو تطورا ـ من تلك التي تستخدمها الشركات الأميركية.
هل كانت رقائق DeepSeek صينية %100؟

مثل خبراء كثيرين، يعتقد أوز سلطان أن الشركات الصينية “تواجه مشكلات للوصول الى مستوى آداء نفيديا” الأميركية في صناعة أشباه الموصلات.
لكن، إن صدقت مزاعم الشركة الصينية، فإن نموذجها يؤشر إلى منعطف جديد في ما أطلق عليها ترامب، عام 2019 “حرب الرقائق” بين الولايات المتحدة والصين.

الشهر الماضي، نبّه ترامب بأن DeepSeek يجب أن يكون “جرس إنذار” لقطاع التكنولوجيا الأميركي.

أشباه الموصلات ـ والرقائق التي تُصنع منها ـ هي العنصر الأساس في كل مجالات التكنولوجيا الحديثة.

لهذا، ستحدد نتيجة الحرب، التي تحدث عنها ترامب، هوية “أقوى قوة”، عسكرية واقتصادية، لعقود طويلة قادمة.

وربما، على مدى أطول.

 

النفط الجديد

تُصنع أشباه الموصلات من عناصر كيميائية، أبرزها، السيليكون والجرمانيوم والغاليوم.

من خصائص هذه المواد، أو العناصر، أنها ليست عازلة بشكل كامل ولا موصلة بشكل كامل للكهرباء.

هذه الخاصية تمكن من استخدام أشباه الموصلات للتحكم بالتدفق الكهربائي في الدوائر الإلكترونية بدقة عالية، وهو ما يجعلها أساسية في صناعة الإلكترونيات.

تقود صناعة أشباه الموصلات العالمية شركات من الولايات المتحدة وتايوان وكوريا الجنوبية واليابان وهولندا.

في عام 2021، كانت هناك ثلاث شركات فقط قادرة على تصنيع أشباه الموصلات الأكثر تقدما، وهي شركة ” TSMC” في تايوان، و”سامسونغ” في كوريا الجنوبية، و”إنتل” في الولايات المتحدة.

كانت تكلفة بناء مصنع للرقائق باهظة جدا؛ ولا تزال.

كلّف مصنع TSMC التايوانية الذي اكتمل بناؤه عام 2020، تسعة عشر مليارا وخمسمئة مليون دولار.

ومع تقدم هذه الصناعة، خلال السنوات القليلة الماضية، أصبحت مصانع أشباه الموصلات أكثر تعقيدا، وتشييدها أكثر كلفة، بسبب الحاجة إلى مساحة أكبر ومبان أضخم.

لكن في المقابل، نمت السوق العالمية لأشباه الموصلات في عام 2024 بنسبة 18% مقارنة بالعام 2023.

وبحسب نتائج أولية أعدتها شركة Gartner, Inc، وصل حجم هذه السوق إلى 626 مليار دولار أميركي. وتتوقع الشركة أن يزداد حجم السوق في العام الجاري إلى 705 مليار دولار.

وسيتجاوز حجم سوق الموصلات تريليوني دولار بحلول عام 2032، بحسب توقعات موقع “فرتشن بيزنس إنسايتس”.

 

كيف تطور الصراع؟

منذ سنوات، تسعى واشنطن لمنع الصين من الاستيلاء، بشكل غير قانوني، على تكنلوجيا أشباه الموصلات الأميركية.
يخشى صناع القرار في واشنطن أن تستخدمها في بناء قدراتها العسكرية.

بوادر المنافسة تعود إلى بداية الألفية، لكن في العام 2017 تحولت رسميا إلى حرب طاحنة.

في ذلك العام، فرض ترامب عقوبات مدمرة على شركة الاتصالات شبه الحكومية الصينية ZTE، وحرمها من الحصول على التكنلوجيا الأميركية.

إدارة ترامب اتهمت الشركة الصينية بإعادة تصدير التكنولوجيا الأميركية إلى إيران وكوريا الشمالية.

منيّت الشركة بخسائر كبيرة بعد أن عجزت عن إنتاج الهواتف الذكية من دون أشباه الموصلات الأميركية.

بعد عامين، وقعت هواوي، أكبر شركة اتصالات صينية، في شرك سيناريو مماثل.

 

قيود بايدن

ومع اشتداد سباق التسلح بالذكاء الاصطناعي أكثر فأكثر، فرضت إدارة بايدن في 2022قيودا على تصدير رقائق أشباه الموصلات، المتطورة، إلى الصين.

H100s وحدة معالجة رسوميات متطورة خاصة بالذكاء الاصطناعي، تصنعها شركة NVIDIA الأميركية.

بعد قيود بايدن، اضطرت الشركة إلى صناعة رقاقة H800s، وهي أقل قوة، لتتمكن من بيعها بشكل قانوني إلى الصين.

عاد بايدن وفرض حظرا على تصدير الـ H800s إلى الصين.

نفيديا حققت “تقدما هائلا” في صناعة وحدات معالجة الرسوميات الخاصة بالذكاء الاصطناعي مقارنة بمنافسيها،” ولاسيما وحدات معالجة الرسوميات H100 وH200 التي يمكنها معالجة مئات آلاف من نقاط البيانات (الرموز) في الثانية،” يقول أوز سلطان، الخبير في تكنولوجيا المعلومات والأمن السيبراني”.
في العام 2022 نفسه، وقع بايدن على قانون الرقائق والعلوم.

وخصص، بموجب القانون، مساعدات بنحو 53 مليار دولار لإعادة تصنيع أشباه الموصلات في الولايات المتحدة، وفرض على الصين قيود تصدير إضافية في عامي 2023 و2024 .

وتضمنت القوانين الجديدة أيضا منع الشركات الأميركية من بيع المعالجات المتطورة والمعدّات التي تدخل في صناعة أشباه الموصلات، لأي شركة صينية.

وتمثلت أحدث القيود في فرض إدارة الرئيس ترامب في منتصف يناير الماضي، ضوابط تصدير أشدّ صرامة على أشباه الموصلات المتقدمة، للحدّ من قدرة الصين “على شراء وتصنيع الرقائق المتطوّرة المستخدمة في التطبيقات العسكرية”، بحسب مكتب الصناعة والأمن (BIS) التابع لوزارة التجارة.

وعلى مدى السنوات القليلة الماضية، أدرجت واشنطن عشرات الشركات الصنيية، وأخرى مرتبطة ببكين على قوائم العقوبات، بعد اتهامها

بمساعدة بكين في إنتاج أشباه الموصلات.

لم يعد الحديث عن أشباه الموصلات الأميركية، خلال السنوات القليلة الماضية، منفصلا عن التهديدات المحتملة للأمن القومي الأميركي.

 

ردود الفعل الصينية

رغم العقوبات، حصلت الصين على أشباه الموصلات الأميركية بوسائل تحايل متعددة، يقول مايك سكستون، المستشار السياسي الأول لشؤون الأمن السيبراني في برنامج الأمن القومي التابع لمؤسسة “Third Way”.

“هناك أدلة قوية على أن الصين تتحايل على العقوبات المفروضة على الرقائق من خلال طرق مختلفة أبرزها ما يطلق عليها شبكات ظلّ”.

بعد حرمانها من التكنلوجيا الأميركية، كشف تقرير أن “هواوي تكنولوجيز” عكفت عام 2023 على بناء مرافق سرية في الصين، بأسماء مختلفة، لتصنيع أشباه الموصلات.

وقالت “الجمعية الدولية لصناعة أشباه الموصلات،” صاحبة التقرير، إن من شأن “شبكات تصنيع الظل”، تمكين الشركات الصينية المدرجة في القائمة السوداء، من التحايل وشراء معدات أميركية خاصة بتصنيع الرقائق، بشكل غير مباشر.

ومن أساليب التحايل الصينية الأخرى ما يُعرف بـ “الطرف الثالث”: أي شركة أو فرد أو كيان خارجي، يقوم بدور الوسيط التجاري، بشكل سري وغير قانوني، بين طرفين.

يقول سكستون إن الصين “نجحت تاريخيا في التهرب من عقوبات الرقائق بمساعدة أطراف ثالثة، مثل ماليزيا وسنغافورة والإمارات”.
“رغم تحسن تعاون الإمارات مع الولايات المتحدة بمرور الوقت،” يضيف.

وتمكنت الصين فعليا من شراء الرقائق الأميركية الحديثة الخاضعة للعقوبات، من خلال شركات وفروع مسجلة دوليا.

وفي نقل التكنلوجيا الأميركية استخدم الناشطون في شركات الظل، أساليب تهريب اعتمدت على: ملصقات شحن مزورة، وصفقات خلف الكواليس، وإنشاء شركات وهمية ومراكز بيانات شكلية.

أدت القيود الأميركية، وحاجة الصين إلى وحدات معالجة الرسوميات التي تصنعها نفيديا، وهي أسرع بنسبة 100% من مثيلاتها الصينية” إلى خلق سباق تسلح للحصول على الموارد” يقول أوز سلطان لموقع “الحرة”.

ولتحقيق الاكتفاء الذاتي من أشباه الموصلات، أنفقت الصين في السنوات القليلة الماضية أكثر من مئة مليار دولار على شركات تصنيع الرقائق، وتحديدا شركتي SMIC المملوكة للدولة، و”هواوي تكنولوجيز” .

أعلنت الشركتان في الربع الأخير من عام 2023، تصنيع معالج متقدم بقياس 7 نانومتر.

هذا لا يعني أن الصين تتقدم على الولايات المتحدة تكنلوجيا، يقول سلطان.

 

بكين “تواجه مشكلات في النمذجة الرياضية لضغط عدد الترانزستورات والتكنولوجيا اللازمة للوصول إلى مستوى آداء نفيديا”.

 

الصين ترد بالمثل

في مواجهة القيود الأميركية، فرضت الصين، في ديسمبر 2023، ضوابط تصدير على مادتين خام حيويتين لصناعة أشباه الموصلات: الغاليوم والجرمانيوم.

وفي ديسمبر 2024، أعلنت حظر تصدير الغاليوم والجرمانيوم والأنتيمون إلى أميركا.

وتعتمد الولايات المتحدة على الصين في توفير هذين العنصرين.

في عام 2021، استوردت أكثر من 50% من حاجتها للغاليوم والجرمانيوم من الصين، بحسب هيئة المسح الجيولوجي الأميركية.

وفي عام 2022، صدّرت الصين حوالي 23 طنا متريا من الجاليوم. واستوردت الولايات من الصين المتحدة ما يقرب من 95% من حاجتها للجاليوم.

واستوردت أميركا في عام 2023، ما قيمته نحو 45 مليون دولار من معدن الجرمانيوم وثاني أكسيد الجرمانيوم. وجاء حوالي 80% من الجرمانيوم المستورد، من الصين.

 

الغاليوم والجرمانيوم

الغاليوم والجرمانيوم من المعادن التي لا تتكون بشكل طبيعي، إنما تُستخلص كمنتج ثانوي لعملية إنتاج معادن أخرى، كالزنك والألمنيوم.
الغاليوم معدن ناعم فضي اللون، يسهل قطعه بالسكين.

يُستخدم عادة لإنتاج مركبات تشكل مواد أساسية في أشباه الموصلات.

الجرمانيوم معدن صلب هش، ذو لون لامع بين الأبيض والرمادي، يستخدم في إنتاج الألياف البصرية القادرة على نقل الضوء والبيانات الإلكترونية وفي ألواح الطاقة الشمسية.

وتعدّ الصين أكبر منتج عالمي للغاليوم والجرمانيوم، وفقا لهيئة المسح الجيولوجي الأميركية، بنسبة 98% من الإنتاج العالمي للغاليوم، و68% من إنتاج الجرمانيوم.

قد تكون الصين هي الرائدة في هذه الصناعة، لكن هناك بدائل متاحة لكلا المعدنين، وفق ما جاء في مذكرة بحثية لمجموعة أوراسيا.

ويقول مايك سكستون إن الولايات المتحدة تستكشف مصادر بديلة من خلال الإنتاج المحلي، وإعادة التدوير واستبدال المواد وعبر الشراكات الدولية.

بدوره لا يستبعد أوز سلطان، الخبير في تكنولوجيا المعلومات والأمن السيبراني، “احتمال تأثر بعض الصناعات المرتبطة بتطوير أجهزة الذكاء الاصطناعي بالحظر الصيني الى حد ما”.

وقد تصبح هذه المسألة “نقطة خلافية”، خلال تفاوض الرئيس دونالد ترامب مع أوكرانيا وأفغانستان بشأن عقود المعادن الأرضية النادرة.

 

مستقبل الحرب

إعلان شركة ديبسيك الصينية عن نموذجها اللغوي الجديد، هل سيغير شيئا في موازين حرب الرقائق بين الولايات المتحدة والصين؟
ردا على هذا السؤال يستحضر سكستون مقولة كاي فو لي، أحد أشهر المستثمرين في مجال التكنولوجيا في الصين: ” الغرب يخترع والصين تُتقن”.

يقول سكستون “صحيح أن الصين لم تتفوق على أحدث التقنيات الأميركية في مجال الذكاء الاصطناعي، “لكنها لحقت بالولايات المتحدة بسرعة أكبر وبشكل دراماتيكي أكثر مما توقعه كثيرون”.

يتطلب الذكاء الاصطناعي طاقة لتطوير النموذج وتشغيله، و”قدرة الصين على تدريب نموذج باستخدام شرائح محدودة، يجعل من المرجح أن تتمكن من تشغيل نماذج على نطاق واسع باستخدام شرائح محدودة أيضا،” يقول سكستون.

لا يجب أن تقلل للولايات المتحدة من شأن “المواهب والنظام البيئي التكنولوجي” في الصين، نظرا لأن السباق على الريادة في مجال الذكاء الاصطناعي في حالة متغيرة دائما، يضيف.

أوز سلطان يعتقد أن ديب سيك ليس سوى استنساخ لنموذج Open AI الأميركي.

“يستفيد نموذج DeepSeek في الواقع من إطار عمل التعلم الآلي بناء على نماذج تعلم اللغة الخاصة بشركة Open AI، إلى حدّ ما على الأقل”، يوضح.
وتحقق وزارة التجارة الأميركية في ما إذا كانت شركة “DeepSeek” الصينية، قد حصلت على رقائق ذكاء اصطناعي أميركية محظورة، واستخدمتها في تطوير نموذجها اللغوي، الذي خرج إلى العلن في 27 يناير الماضي .

يقول مايك سكستون إن التحقيق الأميركي ينظر في الثغرات المحتملة في سلسلة التوريد، وخاصة من خلال بائعين أو كيانات خارجية في الولايات القضائية التي تطبق قواعد التصدير الأميركية بشكل أقل صرامة.

للتدليل على عدم أصالة النموذج الصيني، يشير أوز إلى قصة الباحث الياباني الذي قال إنه طلب من DeepSeek أن ينتج له صورا إباحية، فجاءه الرد من DeeSeek نفسه، بأن طلبه يشكل انتهاكا لسياسة OpenAI الأميركية.
مزاعم أوز وحكاية الباحث الياباني ليست من دون أساس.

الرئيس التنفيذي لشركة Scale AI، ألكسندر وانغ، هو الآخر يعتقد، أو يعلم، أن شركة DeepSeek الصينية تستخدم 50 ألف شريحة Nvidia H100، لكن عمالها ممنوعون من مناقشة الأمر بسبب قيود التصدير الأميركية.

وتعليقا على تصريحات وانغ، قال ماسك بتغريدة في 27 يناير: هذا “واضح”. – وكالات

Related posts

الذكاء الاصطناعي يُحدث ثورة في أنظمة الإنذار المبكر بتسونامي

ذكاء اصطناعي يسرع تصميم المواد المركبة

الصين تستعد لطفرة ذكاء اصطناعي تتجاوز 100 مشروع جديد