في فيلم “إلى أرض مجهولة”، يقدم المخرج مهدي فليفل رؤية سينمائية غنية بالتناقضات؛ حيث تختلط الواقعية القاسية بالرمزية العميقة، لتُنسَج حكاية المنفى والبحث عن الانتماء. الفيلم، الذي يتناول قصة الشابين شاتيلا ورضا، وهما من مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، يبدأ كحكاية عن الهروب، ولكنه سرعان ما يتحول إلى دراسة دقيقة للشخصيات والعلاقات الإنسانية وسط واقع مشحون باليأس والتحدي.
منذ المشهد الأول، يشعر المشاهد بضغط المنفى المادي والمعنوي الذي يثقل كاهل الشخصيات. في أثينا؛ المدينة التي تحولت إلى متاهة حضرية خانقة، يجد الشابان نفسيهما عالقين بين الحلم الألماني والوضع البائس الذي يعيشانه. هنا، يتجلى التناقض بين الشخصيتين: شاتيلا، الجاد والغاضب، يمثل الالتزام والمسؤولية، بينما رضا، الحالم والمتقلب، يعكس الانكسار والتشتت الداخلي. هذه الديناميكية تضفي على الفيلم بعداً إنسانياً عميقاً، حيث تتقاطع الطموحات الشخصية مع الإخفاقات الجماعية، حيث عرض الفيلم الفلسطيني في المسابقة الرسمية لأيام قرطاج السينمائية بدورتها الـ35.
البنية البصرية: من المخيم إلى المتاهة
اختار فليفل تصوير الفيلم بالكامل في أثينا، حيث تبدو المدينة وكأنها انعكاس مكبّر للمخيمات اللبنانية. استخدم التصوير بكاميرا 16 ملم لإضفاء شعور حميمي ونسيج بصري يعكس الخشونة والضيق. الإضاءة الطبيعية والاختيار الدقيق للمواقع، مثل الأزقة الضيقة والمباني المهجورة، يعززان من الشعور بالعزلة والاختناق. السينما هنا ليست مجرد وسيط بصري، بل أداة لرسم حدود العالم النفسي للشخصيات.
السرد بين الوثائقي والخيالي
الفيلم يستعير عناصر من السيرة الذاتية لمهدي فليفل، ولكن بطريقة تتجاوز التوثيق البسيط. بدمج الخيال مع تجاربه الشخصية وقصص الناس الذين التقى بهم خلال سنوات عمله في الوثائقي، نجح فليفل في خلق عمل يحمل طابعاً عالمياً رغم خصوصيته. التوتر السردي في الفيلم ينبع من المزج بين الواقع والخيال، حيث تبدو الأحداث وكأنها صدى لذكريات متداخلة وأحلام متكسرة.
الأداء: قوة الشخصيات
ما يميز الفيلم بشدة هو الأداء الاستثنائي من محمود بكري (شاتيلا) وآرام صباح (رضا). الديناميكية بين الشخصيتين تتسم بواقعية مذهلة، تعكسها التناقضات بين الجدية والانهيار، الحلم واليأس.
آرام صباح، في دوره الأول، أظهر مرونة كبيرة في تقديم رضا كشخصية هشة ومتقلبة، بينما أضفى محمود بكري على شخصية شاتيلا صلابة تتصدع تدريجياً تحت وطأة الضغوط.
كما أن العملية المكثفة في اختيار الممثلين، التي شملت البحث في لبنان وسورية والأردن وفلسطين واليونان، أظهرت التفاني الكبير في انتقاء ممثلين يتمتعون بالعمق العاطفي والارتباط الحقيقي بالقضية.
ويتجلى تأثر مهدي فليفل بروايتي “رجال في الشمس” لغسان كنفاني و”من الفئران والرجال” لجون شتاينبك، حيث يركز على التعقيدات النفسية والاجتماعية للنزوح والاغتراب. كما في رواية كنفاني، التي تسلط الضوء على معاناة الفلسطينيين بعد النكبة وسعيهم للهجرة بحثاً عن حياة أفضل، إذ يعكس فيلم فليفل رحلة شاتيلا ورضا من مخيمات اللاجئين في لبنان إلى أثينا، بحثاً عن مستقبل أفضل. واستخدم كنفاني الصحراء كرمز للتحديات والمخاطر التي تواجه اللاجئين، بينما استخدم فليفل مدينة أثينا بمتاهاتها الحضرية كرمز للضياع والاغتراب الذي يشعر به اللاجئون في بيئة جديدة وغير مألوفة.
وكما استكشف شتاينبك العلاقة بين جورج وليني، يركز فليفل على العلاقة بين شاتيلا ورضا، مسلطاً الضوء على التناقضات بين الشخصيتين وكيف تؤثر هذه الديناميكية على رحلتهما المشتركة. ويتبنى فليفل أسلوباً واقعياً مشابهاً لشتاينبك في تصويره لتفاصيل الحياة اليومية والتحديات التي تواجه الشخصيات، مما يضفي عمقاً على تجربتهم الإنسانية. من خلال دمج هذه التأثيرات الأدبية، ينجح مهدي فليفل في تقديم عمل سينمائي يعكس بعمق التعقيدات النفسية والاجتماعية للنزوح، مسلطاً الضوء على الصراعات الداخلية والخارجية التي تواجهها الشخصيات في سعيها للانتماء والهوية.
“إلى أرض مجهولة” ليس فقط عن اللاجئين أو الهجرة؛ إنه دراسة عن الإنسان في مواجهة خيارات مستحيلة. الرمزية تتبدى في كل جانب من الفيلم: من العلاقة المتوترة بين شاتيلا ورضا التي تعكس الصراع الداخلي بين المسؤولية والانهيار، إلى فكرة الهروب كطريق لا نهاية له. حتى الأماكن والشخصيات الثانوية، مثل الطفل مالك أو المرأة تاتيانا، تحمل معاني عميقة تضيف طبقات من التأويل إلى القصة.
مقارنة مع أعمال فليفل السابقة
رغم استمرارية المواضيع بين هذا الفيلم وأعمال فليفل السابقة، مثل “عالم ليس لنا” و”رجل يغرق”، فإن “إلى أرض مجهولة” يمثل نقلة نوعية في أسلوبه السردي والبصري. فبدلاً من التركيز على الوثائقي البحت، يتجه هنا إلى استكشاف تعقيدات الشخصيات والبيئة من خلال عدسة درامية تحمل تأثيرات من السينما الأميركية في السبعينيات، مما يخلق توازناً بين العمق العاطفي والتشويق.
“إلى أرض مجهولة” يعكس التوترات النفسية والاجتماعية التي تواجهها شخصياته، وهو شهادة على قوة الساعد إنما كوسيلة للتعبير عن القضايا الإنسانية. من خلال سرد غني بالتفاصيل وأداء مذهل، يقدم مهدي فليفل فيلماً يحمل صوتاً خاصاً، يعكس الألم والأمل في آنٍ واحد، ويؤكد مكانته كواحد من أبرز صناع السينما المعاصرين الذين يوثقون تجربة الفلسطينيين في الشتات.