في بدايات عام 2022، تسبّب الإعلاميان البريطانيان البارزان إيميلي مايتليس وجون سوبل في صدمة مدوية لجمهور الإذاعة البريطانية “بي بي سي”؛ وذلك بعد إعلانهما الاستقالة من الإذاعة البريطانية الأكبر التي صنعت شعبيتهما وكوّنت لهما قاعدة جماهيرية عريضة. لكن الصدمة لم تكن لخبر الاستقالة وحسب، ولكن لسببها الغريب، وهو رغبة الإعلاميين في تقديم “بودكاست” مشترك -عوضًا عن برنامجهما- على شبكة “إل بي سي”[1].
أثارت الخطوة تساؤلات عن ثقب “البودكاست” الأسود الذي بات يبتلع الإعلاميين والجماهير بسرعة متزايدة بجاذبية غير مسبوقة. ذلك النمط الإعلامي الذي بدأ عام 2004، وأخذ في التنامي سريعًا حتى إن 61% ممن أجروا استطلاع “اتجاهات البودكاست” لعام 2019، التابع لمنصة “ديسكوفر بودز”، باتوا ينفقون أوقاتهم على البودكاست أكثر من التلفزيون، وهذه الساعات لـ82.4% منهم تتجاوز 7 ساعات أسبوعيا.
وفي خلال 5 سنوات فقط، من 2018 إلى 2023، وبحسب موقع “بودكاست إندكس” (Podcast Index)، تضاعفت أعداد البودكاست في العالم من 197 ألفا إلى نحو 4 ملايين بودكاست، مع شريحة جماهيرية تتجاوز 80 مليون مستمع أسبوعيا ليس في العالم كله، ولكن في الولايات المتحدة وحدها.
وبالانتقال إلى وطننا العربي، سنجد أن موقع البودكاست العربي يخبرنا أننا نمتلك نحو 1400 برنامج بودكاست، وهي إحصائية قابلة للتزايد الكبير. لكن مع هذه الإحصائية وغيرها، ومع اتساع جاذبية البودكاست لكل من المنتجين والمستقبلين، هل يمكننا أن نسأل عن حصيلة المعرفة التي تركها هذا الإنتاج؟ أو بالأحرى: هل يمكننا أن نرى مفارقة واضحة في عدد المستمعين إلى البودكاست الذي يُصدّر عادةً في ثوب المحتوى المعرفي الهادف، وعدد القارئين الجادّين؟
بحسب اليونسكو، فإن الطفل العربي يقرأ 7 دقائق في كل عام، بينما يقرأ المواطن العربي بوجه عام نحو ربع صفحة في السنة، وهو معدّل متناسق بعض الشيء مع تراجع الإنتاج العلمي في العالم العربي لنحو 1650 كتابًا سنويا[2]. بينما لو عدنا أدراجنا نحو البودكاست سنجد أن نسبة مستمعي البودكاست من منصة “سبوتفاي” ترواح بين 26% إلى 39% من إجمالي مستخدمي “سبوتفاي” العرب، بمعدّل زيادة بلغت في عام 202 فقط نحو 2870%، لكن الإحصائية الأكثر لفتًا للانتباه هي أن قرابة 40% من هؤلاء المستمعين كلهم ينتمون إلى الجيل زد[3] (المولودين بعد عام 1996) وهو ما يعني أننا أمام جيل بات يسمع أكثر مما يقرأ؛ لنجد أننا أمام مفارقة مذهلة بين إحصائيات القراءة وإحصائيات الاستماع تجعلنا نسأل: هل ستنحصر القراءة وينقرض الكتاب أمام سمّاعات الأذن وشاشة الهاتف؟
من الورقة إلى الشاشة
في بدايات القرن الماضي، أعلن الفيزيائي الشهير ألبرت أينشتاين عن نظريته التي يعرفها الجميع: “النسبية”، ليخبرنا من خلالها عددًا من المعلومات الكونية، من بينها أنك لو اخترت توأمين، وأرسلت أحدهما إلى الفضاء وأبقيت الآخر على الأرض، فإن الأخ الفضائي عند عودته إلى الأرض سيجد أخاه الأرضي في عمر جدّه بينما هو لا يزال في طور الطفولة.
لنترك الآن أينشتاين جانبًا، ونستأذنه أن يترك لنا “نسبيته” وتوأميه لسياق آخر، سنطلق فيه على التوأم الأول “الأخ الورقي” بينما سنسمّي الآخر “الأخ الرقمي”، ونعود إلى الثمانينيات لنبدأ تجربتنا. في تلك الحقبة سنترك الأخ الورقي مكانه، بينما سنستقل آلة الزمن ونسافر بالأخ الرقمي 5 عقود إلى المستقبل.