الرئيسية مقالاتتبعات الاحتلال السيبراني على الفلسطينيين* د. سنية الحسيني

تبعات الاحتلال السيبراني على الفلسطينيين* د. سنية الحسيني

من s j
A+A-
Reset

تكشف جريمة اغتيال مراسلي قناة الجزيرة في غزة قبل يومين عن حالة مستمرة من المعاناة في فلسطين، في إطار منظومة متكاملة يتبناها الاحتلال في تعامله مع الفلسطينيين تشمل الرقابة والتتبع والاستهداف العقابي بالسجن أو القتل، سواء في غزة أو في الضفة بما فيها القدس وحتى وراء الخط الأخضر. ورغم أن أسلوب الاغتيالات ليس جديداً في سياسة الاحتلال ضد الفلسطينيين، فطالما اعتمدت حكومات الاحتلال المختلفة تلك السياسة في الماضي، كما أن اقترافها لجريمة اغتيال المدنيين كالصحافيين أيضاً لم تمثل سياسة جديدة، فاغتالت مخابرات الاحتلال في الماضي الصحفي والكاتب والرسام إلى جانب المقاتل، إلا أن الخطير اليوم هو استخدام الاستحداثات السيبرانية المتشعبة والمتعددة لمحاصرة الفلسطينيين جميعاً، والتضييق عليهم، وإخضاعهم لحالة عامة من المراقبة والتتبع والعقاب، في ظل حالة من السيطرة المحكمة عليهم بحكم الاحتلال.

ولعل حرب غزة قد كشفت للعالم عن خطورة الاحتلال السيبراني وآثاره الكارثية على الفلسطينيين. فمن منا ينسى مشاهد الطائرة المسيرة التي صورت اللحظات الأخيرة من حياة يحيى السنوار في رفح. وقبل يومين أطلقت طائرة بدون طيار صارخاً على خيمة الصحافيين بالقرب من مستشفى الشفاء في غزة، وقتلت مراسلي الجزيرة أنس الشريف ومحمد قريقع ومصورين آخرين، بعد تهديدات وتتبع للتحركات ورصد لمواقع التحرك. قبل الحرب وخلالها، كثيرا ما اغتالت الطائرات المسيرة شخصيات فلسطينية كانت تتبعها ضمن وسائل متعددة، جلها سيبراني، وتقتلهم في سياراتهم أو بيوتهم. وعلى مدار كل يوم، لا تخلو سماء غزة من الطائرات المسيرة “الزنانة” التي تتبع تحركات المواطنين في جميع أنحاء القطاع، وحولت حياتهم لمعاناة مستمرة بالعيش بقلق والشعور بعدم الأمان. في الضفة الغربية أيضاً يخضع المواطن الفلسطيني للمراقبة المستمرة والتتبع ورصد التحركات، في حياة أشبه بالسجن تماماً.

واهتمت إسرائيل بتطوير قدراتها السيبرانية بشكل خاص في الأراضي المحتلة، والذي يضمن لقوة الاحتلال مواصلة سيطرتها على ملايين من البشر بتكلفة وجهود أقل وتقنيات ونتائج دقيقة، والذي يضمن لها مواصلة تحقيق أهدافها بمواصلة حصار الفلسطينيين والتحكم بحياتهم، في ظل حالة شاذة من الاحتلال الطويل. طورت سلطات الاحتلال قدرات التجسس السيبراني عبر شبكة تضم وحدات عسكرية استخبارية وشركات قطاع خاص وباحثين في إطار مؤسسات علمية إسرائيلية وأميركية. ويتأسس هذا النوع من الشركات الخاصة في العادة من أعضاء سابقين في وحدات استخبارية إسرائيلية. في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بدأت تُعتبر إسرائيل جهة مهمة في مجال التكنولوجيا المتقدمة، بعد أن سخرت استثمارات كبيرة في مجال البحث والتجريب والتطوير، وباتت اليوم قوة سيبرانية مميزة على مستوى العالم، في ظل تقاطع وثيق بين الصناعة والأكاديميا والممارسة، خصوصا الاستخبارية والعسكرية. برزت إسرائيل أيضًا كمنتج ومصدر رئيس للطائرات بدون طيار، بعد أن طُوّرت هذه التقنية في المقام الأول لمهام استخباراتية استطلاعية لمراقبة الفلسطينيين، فينتشر هذا النوع من الطائرة على نطاق واسع ومستمر في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

تستخدم إسرائيل تقنياتها التجسسية السيبرانية المختلفة لرصد تحركات الفلسطينيين المنتشرين على مجمل الأرضي الفلسطينية، كل حسب الظروف التي فرضها عليها الاحتلال، وحدود السيطرة والتحكم التي ينشدها لكل شريحة تسكنها. فتستخدم إسرائيل في غزة على سبيل المثال الطائرات بدون طيار بشكل كبير، للمراقبة والتتبع والرصد، لتحديد الأماكن والتعرف على هوية الأشخاص، ولاستهدافهم أيضاً عند الحاجة. في حين تستخدم ذلك النوع من الطائرات بدرجة أقل في الضفة الغربية، في ظل توفر تقنيات أخرى متعددة للتحكم بحياة المواطنيين. على سبيل المثال، تستخدم مجالس المستوطنين والمنظمات المرتبطة بها الطائرات بدون طيار لمراقبة البناء الفلسطيني خصوصاً في المنطقة (ج) من الضفة الغربية، لتوجيه إجراءات الهدم وإعاقة التنمية الفلسطينية. بالإضافة لتجسس الطائرات بدون طيار، يستخدم الاحتلال في عملياته في غزة نظامي ذكاء اصطناعي مترابطين، الأول عبارة عن قاعدة بيانات، تُعالج كميات هائلة من بيانات أفراد مشتبه بهم، بما في ذلك الاتصالات، وأنماط السلوك، وأنشطة وسائل التواصل الاجتماعي، والثاني يعمل بمجرد توصل البرنامج الأول لنتائج تؤكد الشكوك بالشخص المتتبع، ليبدأ نشاطه باشعار الجهاز العسكري، واستخدام تقنيات تحديد الموقع، ليسهل مهاجمته.

طورت منظمة المراقبة العسكرية الإسرائيلية تقنية ذكاء اصطناعي متطورة، يستثمرها “الشاباك” في التعامل مع كم ضخم من البيانات للتحليل، والتي جُمعت من مصادر متعددة، مثل وسائل التواصل الاجتماعي، والأجهزة المحمولة، ومنصات الإنترنت، كما تستخدم أيضاً مجموعة هائلة من الاتصالات الفلسطينية المُعترضة. وتقوم سلطات الاحتلال بمتابعة نشطة لمنصات التواصل الاجتماعي للفلسطينيين، كوسيلة فعّالة لجمع المعلومات الاستخبارية. ويعتمد كلٌّ من جهاز الأمن العام (الشاباك) والشرطة الإسرائيلية على تقنيات المراقبة الرقمية المتطورة لمراقبة الفلسطينيين وتقييمهم، بل ومقاضاتهم بناءً على موادهم المنشورة على الإنترنت. وعززت السلطات الإسرائيلية، بعد ٧ أكتوبر ٢٠٢٣ ذلك النوع من المراقبة، وعاقبت فلسطينيين لمجرد وجود صور لغزة على هواتفهم، حتى وراء الخط الأخضر.

ويُجبر الفلسطينيون في الأراضي المحتلة على استخدام شبكات الهاتف المحمول التي توفرها إسرائيل، لأن الشركات الإسرائيلية تهيمن على البنية التحتية للشبكات، مما قد يُسهل هذا الاختراق. وتقوم شركة استخبارات رقمية إسرائيلية باختراق الهواتف الذكية والأجهزة الأخرى لاستخراج أنواع مختلفة من البيانات، بما في ذلك الرسائل النصية وسجلات المكالمات وبيانات التطبيقات والصور ومقاطع الفيديو ومعلومات الموقع، وحتى المحتوى المحذوف. وجرى تطوير برنامج تجسس يسمى “بيغاسوس” من قبل شركة خاصة، وهو برنامج يهدف لاختراق الهواتف الذكية سرًا، للوصول إلى مجموعة واسعة من البيانات على الهاتف، كالرسائل النصية والبريد الإلكتروني والمكالمات والصور ومقاطع الفيديو وجهات الاتصال وتتبع الموقع وتفعيل ميكروفون وكاميرا الهاتف.

يستخدم جيش الاحتلال تقنيات متقدمة للتعرف على الوجوه، تنشر في مجمل أنحاء الضفة الغربية بما فيها القدس، مع تطبيقات معقدة تدمج تقنية كشف الوجه مع تفاصيل البطاقات البيومترية للأفراد، لتحديد الهوية بشكل فوري. ويستخدم تقنية أخرى مكملة في نقاط التفتيش العسكري، المنتشرة بكثافة في الضفة الغربية، حيث يستخدم جنود الاحتلال تقنية مسح الوجوه بشكل مستمر، لمعرفة ما إذا كان ينبغي احتجاز المواطنين أو التحقيق معهم أو السماح لهم بالمرور. كما يستخدم الاحتلال في الضفة الغربية، خصوصاً في مدينتي القدس والخليل، نظام مراقبة يعتمد على شبكة من كاميرات عالية الدقة، موزعة بشكل استراتيجي، في الأماكن العامة. وتسمح الكاميرات بتتبع التحركات، وتقريب الصور على أفراد أو مركبات، للكشف اللحظي عنها، حيث ترسل لقطات حية إلى مراكز التحكم المركزية لقوات الاحتلال، لتحليل الأنشطة على مدار الساعة. يتميز البرنامج بقدرات حفظ وإعادة التشغيل، مما يتيح استخدامه بعد الأحداث أيضاً.

يمكن اعتبار أن الاحتلال الإسرائيلي العسكري لفلسطين هو أيضاً احتلال سيبراني لا يقل خطرة عن النوع الأول، لأنه وضع جميع الفلسطينيين في الأراضي المحتلة في سجن كبير محاط بأسوار إلكترونية عازلة. وتُستخدم المراقبة الرقمية لتنظيم وقمع السكان الفلسطينيين، وتتبع حتى فكرهم وخطابهم، وهم في الأصل شعب تحت الاحتلال. يستخدم الاحتلال معلوماته الرقمية بشكل خطير لحصار الفلسطينيين واحكام سيطرته عليهم، فعبر تحكمه بإصدار تصاريح المرور والعمل في الضفة الغربية، والوصول للخدمات الصحية والتعليمية والاجتماعية في بعض المناطق، يتحكم بحياة الأفراد ومستقبلهم وحتى مصيرهم. إن تلك الحالة الخطيرة، التي تتفاقم يوماً بعد يوم، في ظل تصاعد إحكام سيطرة الاحتلال على الحياة المدنية والسياسية للفلسطينيين، بل وربط حقوقهم بشكل مباشر ببياناته، يهدد مستقبلهم وطموحاتهم السياسية بشكل خطير.

شاهد ايضا

Focus Mode