الدكتور نضال المجالي
أثار تصريح وزير الداخلية حول فكرة تقليص أيام العزاء جدلا واسعا بين مؤيد يرى فيها نظرة إصلاحية تلامس الواقع، ومعارض اعتبرها مساسا بالعادات والتقاليد الأصيلة. وبين الموقفين، تكشف القضية عن عمق التباين في طريقة تفكيرنا تجاه التغيير الاجتماعي، وكيف يمكن أن تتحول فكرة بسيطة إلى نقاش وطني محتدم.
الفكرة بحد ذاتها لا تمس جوهر التعزية ولا قيم المواساة، بل تطرح سؤالا مشروعا: هل ما نمارسه اليوم من طقوس العزاء ما زال يحمل روح المواساة، أم أنه تحوّل إلى مناسبة اجتماعية مثقلة بالمظاهر والتكاليف؟
الوزير، كما يبدو، تحدث من منطلق واقعي، مدفوع بما يراه من تضخم في مظاهر العزاء التي باتت ترهق الناس ماديا ونفسيا، وتبتعد عن مقاصدها الإنسانية. فهو لم يدع إلى إلغاء التعزية، بل إلى تهذيبها وإعادتها إلى معناها البسيط، حيث الحضور للواجب لا للاستعراض.
في المقابل، جاء رد الفعل الشعبي سريعا ومتباينا. فهناك من رأى أن الوزير تجاوز حدود العادات الراسخة، وأن مثل هذه الطروحات تمس نسيجا اجتماعيا متوارثا، وأن العزاء في الأردن ليس مجرد طقس بل تعبير عن التضامن والكرم والوفاء. هؤلاء تحدثوا بلغة العاطفة والانتماء، واعتبروا أن اختزال العزاء في يوم أو يومين يضعف الروابط التي تجمع الناس في لحظات الفقد.
لكن وسط الأصوات الغاضبة، برز تيار آخر قرأ الفكرة بعيدا عن اي سبب خفي في نفوسهم وافكارهم مهما كان، واعتبرها طرحا عقلانيا يستحق النقاش لا الرفض. فليس كل عادة مقدسة، ولا كل تجديد مرفوض، خاصة حين يتعلق الأمر بعادات أضيفت إليها مع الزمن مظاهر مبالغ فيها لا تمت بصلة لجوهر التعزية.
اللافت أن الجدل لم يكن فقط حول مضمون الفكرة، بل حول طريقة تلقي الناس لتصريحات المسؤولين. فالمجتمع بات سريع الاشتعال تجاه أي طرح رسمي، مهما كانت نواياه حسنة، نتيجة تراكم انعدام الثقة وسوء الظن. ولهذا، تحولت المبادرة الاجتماعية إلى قضية سياسية وإعلامية، واختزل النقاش في شخص الوزير لا في مضمون الفكرة.
في النهاية، القضية ليست عن عدد أيام العزاء، بل عن قدرتنا على التفكير بعقلية إصلاحية دون أن نصطدم بالعاطفة الجمعية.
ارى ان معالي الوزير نجح في مبتغاه بغض النظر عن النتائج وتحدث عن مبادرة تفكيرية للنقاش بلغة الواقع والضغوط الاقتصادية والاجتماعية، وجعلها قضية حديث الجمهور وهي خطوة هامة، فيما رد بعض المجتمع بلغة الموروث والهوية. والذكاء الاجتماعي يكمن في الموازنة بين الطرفين: أن نحافظ على روح العزاء ومكانته، وأن نقلص في الوقت ذاته من ثقافة الاستعراض والمغالاة.
فالعزاء لا يقاس بعدد الأيام ولا بخيمة أكبر أو مضافة أوسع، بل بصدق المواساة ومقدار الإنسانية التي نحملها تجاه من فقد عزيزا، ولهذا اقول يحق لكل شخص ان يختار ما يناسبه، لكن لا يحق لاحد ان يصادر طرح الأفكار ويحاكم أصحابها لسلوكيات تتطور.