العناوين الفرعية
تأخرت في الكتابة عن هذا الموضوع، لا لأنني كنت غافلا عنه، بل لأنني أردت أن أراقب، أن أقرأ، أن أدرس ردود الفعل بعناية، وهو لماذا يتم تقزيم دور الأردن كلما تعلق الأمر بفلسطين؟
ولماذا يبدو حضوره وكأنه غير مراد أن يرى؟ فلما كنت أبحث عن الإجابة، وجدت أمامي أكثر من مجرد تحليل سياسي، وسردية تعاد صياغتها عمدا، هدفها تهميش الدور الأردني وتحييده عن مراكز القرار، رغم أنه في قلب الفعل منذ اللحظة الأولى.
لن أعود بالتاريخ بل سأبدأ منذ أن بدأت المجاعة في غزة تأكل ما تبقى من صبر الناس، فكان الأردن هناك وشاحنات الهيئة الخيرية الهاشمية لم تتوقف، والإنزال الجوي الأردني كان الأول من نوعه فكان ينفذ الإنزال في أصعب الظروف، ووزير الخارجية أيمن الصفدي لم يغادر الساحة الدولية، وكان يدق ناقوس الخطر بتوجيهات مباشرة من الملك عبدالله الثاني، الذي لم يدخر منبرا أو فرصة إلا وأعاد فيها تصويب البوصلة نحو فلسطين.
فاستنتجت ان الخطر الحقيقي في هذا التجاهل المتعمد لدور الأردن، يكمن باختزال دوره في أن يكون مجرد «نقطة عبور» وليس شريكا استراتيجيا يحمل على عاتقه عبء الحفاظ على الاستقرار والدفاع عن القضية الفلسطينية، فعندما تستبدل عمان بجهات أخرى لا تملك نفس العمق والالتزام، يفتح الباب أمام اختلالات خطيرة في إدارة الأزمة، ويزداد تعقيد المشهد الإقليمي، وهذا التهميش لا يضر فقط بالأردن، بل يهدد الجهود المبذولة لإنقاذ غزة ويقوض فرص التوصل إلى حلول مستدامة، مما يجعل المنطقة برمتها أكثر هشاشة أمام تداعيات يصعب السيطرة عليها.
وهنا أقول ومن منطلق قناعتي الشخصية، أرى أنه من الضروري أن أتحدث عن نقطة حساسة كثيرا ربما تفهم بطريقة او بأخرى لكن لا يهمني كونها من ضمن قناعاتي وهي مدى التجاهل والتهميش او التشكيك بدور الأردن في القضية الفلسطينية، وخاصة في ملف غزة، هذا التشكيك والتجاهل ليس مجرد خطأ أو سهو، بل يشكل خطرا حقيقيا على مسيرة القضية وعلى الاستقرار الإقليمي بأكمله.
ولو بحثنا في الدور الأردني ودور الملك عبد الله الثاني بهذا الملف فسنجده ينطلق بناء على أنه «إرث» هاشمي عميق وقناعة راسخة بأن فلسطين ليست عبئا يلقى على الآخرين، ولا ملفا تفاوضيا عابرا، بل قضية حق وعدالة وكرامة عربية لا تسقط بالتقادم، وهذا للأسف يغيب عن ذهن البعض ربما سهوا وربما قصدا.
مواقف الملك الثابتة وجولاته الدولية لا تهدف إلى تسجيل حضور أو استعراض، بل إلى رفع الصوت الأخلاقي في زمن يملؤه التردد والازدواجية السياسية، ومع ذلك ما تزال هناك محاولات متكررة لتهميش الدور الأردني ككل أو تجاهله، ربما لأنه بقي وفيا لمبادئه، ورافضا أن يدخل في صفقات أو مساومات، أو لأنه لا يوافق على تحويل القضايا المصيرية إلى فرص للظهور الإعلامي أو حسابات سياسية ضيقة.
وعلى سبيل المثال الحاضر، جاء الإعلان الألماني أمس عن إقامة جسر جوي مع الأردن لنقل المساعدات إلى غزة ليعيد إحياء هذا الملف على الساحة الدولية، فقد وجدت ألمانيا، إلى جانب فرنسا وبريطانيا، في الأردن شريكا موثوقا لتمرير الدعم الإنساني إلى القطاع.
هذه الثقة لا يريد البعض ان تترجم الى قدرات حقيقية على الأرض، فما يريدونه هو ان يكون الصوت السياسي الأردني محصورا على الهامش، وأن يتحمل المسؤوليات الثقيلة والمهام الصعبة، في حين تصاغ القصص السياسية وتقطف المكاسب والإشادات في عواصم أخرى، بعيدا عن الأردن، ولهذا اكرر وأقول إن التهميش المستمر للأردن لا يخدم مصلحة القضية الفلسطينية، ولا يساهم في تعزيز استقرار المنطقة.
وفي النهاية، فإن ما يجري في غزة اختبار للجميع، واختبار آخر لطريقة تعامل العالم مع من يتحمل عبء الميدان، وإن كان هناك من لا يرى في الأردن شريكا سياسيا من الصف الأول بالقضية الفلسطينية، فإن التاريخ والجغرافيا والدم يرونه الظهر العربي الأخير الذي لم ينكسر، ولم يتاجر، ولم يتغير.